الصبر في الأذى.. وعذاب اللـه للمؤذين
عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس أحد ـ أو ليس شيء ـ أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدا، وإنه ليعافيهم ويرزقهم" (1).
عن عبد الله بن مسعود ـ رضــي الله عنه ـ قال قسَّم النبي صلى الله عليه وسلم قسمة ـ كبعض ما كان يقسِّم ـ فقال رجل من الأنصار: والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، قلت : أما لأقولن للنبي صلى الله عليه وسلم فأتيته ـ وهو في أصحابه ـ فساررته فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وتغير وجهه وغضب، حتى وددت أني لم أكن أخبرته، ثم قال : قد أوذي موسى بأكثر من ذلك فصبر(2).
الدروس والعبر :
1ـ إيذاء الرسل والصالحين إيذاء لله: المراد بالأذى في الحديث الأول، أذى رسله وصالحي عباده، لاستحالة تعلق أذى المخلوقين به لكونه صفة نقص، وهو منزه عن كل نقص، ولا يؤخر النقمة قهرا بل تفضلا، وتكذيب الرسل في نفي الصاحبة والولد عن الله أذى لهم، فأضيف الأذى لله للمبالغة في الإنكار عليهم والاستعظام لمقالتهم (3).
2ـ توضيح من القرآن الكريم: وهذا المعنى يزداد وضوحا بالوقوف على تفسير قوله تعالى: "إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا. والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا" (الأحزاب: 57،58).
أ ـ اختلف العلماء في أذية الله فقال الجمهور من العلماء : معناه الكفر ونسبة الصاحبة والولد والشريك إليه، ووصفه بما لا يليق به، كقول اليهود لعنهم الله : "وقالت اليهود يد الله مغلولة" (المائدة: 64)، "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء" (آل عمران: 181).
ب ـ المراد بأذية رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأما أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي كل ما يؤذيه من الأقوال والأفعال، كقولهم ساحر وشاعر وكاهن ومجنون وكذاب، وأما فعلهم فكسر رباعيته وشج وجهه يوم أحد، وإلقاء السّلَى على ظهره وهو ساجد، إلى غير ذلك.
ج ـ المراد بأذية المؤمنين: وأذية المؤمنين والمؤمنات هي أيضا بالأفعال والأقوال القبيحة، كالبهتان والتكذيب الفاحش المختلق، وعن قتادة ـ رضي الله عنه ـ قال في الآية: إياكم وأذى المؤمنين، فإن الله يحوطهم، ويغضب لهم (4).
وعن الشعبي ـ رضي الله عنه ـ أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: إني لأبغض فلانا، فقيل للرجل: ما شأن عمر ـ رضي الله عنه ـ يبغضك! فلما أكثر القوم في الذكر جاء، فقال: يا عمر أفتقت في الإسلام فتقا؟ قال: لا . قال : فجنيت جناية؟ قال: لا . قال : أحدثت حدثا؟ قال: لا . قال: فعلام تبغضني، وقد قال الله : "والذين يؤذون المؤمنين" فقد آذيتني فلا غفرها الله لك. فقال عمــــر ـ رضي الله عنه ـ : صدق والله ما فتق فتقا، ولا ولا، فاغفرها لي، فلم يزل به حتى غفرها له (5).
3ـ مخالطة مع الصبر أفضل من العزلة: الصبر في الأذى هو حبس النفس عن المجازاة على الأذى قولاً أو فعلا، وقد يطلق على الحلم، قال بعض أهل العلم : الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جَبَلَ الله الأنفس على التألم بما يفعل بها ويقال فيها، ولهذا شق على النبي صلى الله عليه وسلم نسبتهم له إلى الجور في القسمة، لكنه حلم عن القائل فصبر لما علم من جزيل ثواب الصابرين، وأن الله تعالى يأجره بغير حساب، والصابر أعظم أجراً من المنفق، لأن حسنته مضاعفة إلى سبعمائة، والحسنة في الأصل بعشر أمثالها إلا من شاء الله أن يزيده. وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : "الصوم نصف الصبر" (6).
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ رفعه "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم"(7)، وهذه المخالطة إنما تكون مع الحذر والمحافظة على أحكام الدين، وعدم التفريط فيها، وفي ذلك يقول ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : "خالط الناس، ودينك لا تكلمنه، والدعابة مع الأهل"(.
4 ـ صبر أولو العزم من الرسل: والصبر للداعية فريضة وضرورة، حتى يتمكن من تبليغ دعوته، والقيام بأداء رسالته، وله في رسل الله الأسوة الحسنة، وتأمل معي في سور القرآن الكريم المكية ففي أول السور نزولاً يقول الله تعالى لرسول صلى الله عليه وسلم:"فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم"(القلم:48). "واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا"(المزمل: 10)، وكأن رب العالمين يزود نبيه صلى الله عليه وسلم بالزاد الذي لابد منه لكل صاحب رسالة، ولذلك نرى الرسول صلى الله عليه وسلم مما إن ينقل له ماقيل حتى يساعد نفسه على تحمل الأذى بأن ذكرها بشأن نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ فقال : "قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر".
5 ـ كيف كان إيذاء قوم موسى له: قد حكي في صفة أذاهم له ثلاث قصص:
أولها: قولهم هو آدر: فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: إن موسى كان رجلاً حيياً ستيرا لا يُرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده: إما برص وإما أدْرَة، وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه عريانا أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر ، فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا، فذلك قوله: "ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها"(9).
ثانيها: في قصة موت هــارون ـ عليه السلام ـ روي أن الله أوحى إلى موسى عليه السلام : إني متوف هارون، فائت به جبل كذا وكذا.. فانطلقا نحو الجبل، فإذا هم بشجرة وبيت، فيه سرير عليه فرش وريح طيب، فلما نظر هارون ـ عليه السلام ـ إلى الجبل والبيت وما فيه أعجبه، قال: يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير، قال: نم عليه. قال: نم معي. فلما ناما أخذ هارون عليه السلام الموت، فلما قبض رفع ذلك البيت، وذهبت تلك الشجرة، ورفع السرير إلى السماء، فلما رجع موسى ـ عليه السلام ـ إلى بني إسرائيل قالوا: قتل هارون ـ عليه السلام ـ حسده حب بني إسرائيل له، وكان هارون عليه السلام أكف عنهم، وألين لهم، وكان موسى ـ عليه السلام ـ في بعض الغلظة عليهم، فلما بلغه ذلك قال: ويحكم إنه كان أخي، أفتروني أقتله! فلما أكثروا عليه قام يصلي ركعتين، ثم دعا الله، فنزلت الملائكة بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدَّقوه(10).
وقذ ذكرها ابن حجر في الشرح وقال فيها ضعف، ولو ثبت لم يكن فيه ما يمنع أن يكون في الفريقين معا، لصدق أن كلا منهما آذى موسى فبرأه الله مما قالوا، والله أعلم(11).
ثالثها: في قصته مع قارون: حيث أمر البغي أن تزعم أن موسى راودها حتى كان ذلك سبب هلاك قارون (12)، أخرج ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان موسى يقول لبني إسرائيل: إن الله يأمركم بكذا حتى دخل عليهم في أموالهم، فشق ذلك على قارون، فقال لبني إسرائيل: إن موسى يقول: من زنى رجم، فتعالوا نجعل لبغي شيئا، حتى تقول إن موسى فعل بها، فيرجم، فنستريح منه. ففعلوا ذلك، فلما خطبهم موسى قالوا له: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا. فقالوا: فقد زنيت، فجزع، فأرسلوا إلى المرأة، فلما جاءت عظم عليها موسى، وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل إلا صدقت، فأقرَّت بالحق، فخر موسى ساجدا يبكي، فأوحي الله إليه، إني أمرت الأرض أن تطيعك فأمرها بما شئت، فأمرها فخسفت بقارون ومن معه(13).
دمتم برعاية الله
منقول للكاتب : حجــازي إبراهيــم
الهوامـــش
1 ـ فتح الباري 10-511-6099 ومسلم بشرح النووي 17-146-2804.
2 ـ فتح الباري 10-511-6100.
3 ـ فتح الباري 13-361.
4 ـ الدر المنثور 5-414. 5 ـ مرجع سابق.
6 تحفة الأحوذي 9-501-3585.
7 ـ ابن ماجه 2-1338-4032.
8 ـ فتح الباري 10-526.
9 ـ فتح الباري 6-436-3404 والآية من الأحزاب: 69.
10 ـ الدر المنثور 5-420. 11 ـ فتح الباري 6-438.
12 ـ فتح الباري 10-511 ـ 512.
13ـ فتح الباري 6-448 في الشرح